حينما كنا صغارا دون الخامسة كانت لنا شلة صغيرة من أطفال البناية، لكن أمهاتنا لم يسمحن لنا باللهو في الدرب مثل إخوتنا الكبار، فكنا نقنع باللهو في درج البناية.. كنا نقضي طيلة النهار في اللهو لا يقطعه سوى محطات الإفطار والغداء وكوب اللبن، وحينما يحل المساء نتناول طعام العشاء نصف نائمين، فتحملنا أمهاتنا إلى المضاجع، ونحن نمتلك في تلك اللحظة نصف وعي يتيقظ قليلا، وأمهاتنا تحملننا في الهواء ثم تضعننا برفق في المخدع وتحكمن الغطاء.
كنا نلاحظ الكثير رغم بداءة لغتنا، حتما كانت ماما الكلمة الأهم التي تتردد عشرات المرات.. ماما الأرض والشمس والقمر والحياة.. ماما الحلوى واللبان والشيكولاتة والبن بون.. ماما النزهات والألعاب والملابس الجديدة، ماما أهم مخلوق في العالم كله.. كانت تلك هي لغتنا البكر الأولى التي تتعثر في التعبير عن تلك الأحاسيس المضخمة التي تتشكل في وجداننا.
رويدا بدأنا نكبر، لم نعد هؤلاء الأطفال الصغار الذين يتعثرون على الدرج، وإنما صار الدرب هو أرضنا الخاصة، لقد أخلينا نحن الدرج لأطفال صغار دون الخامسة مثلما أخلى إخوتنا الكبار لنا الدرب وانطلقوا إلى حيث لا نعلم.
العيد بهجة
يا لمذاق هذه الأيام التي لا تنسى! لقد تفتحت مداركنا دون أن نفقد القدرة على الدهشة.. وكانت الأحداث التافهة جساما في نظر أنفسنا، كنا لم نزل في هذه السن الذي يعني فيه العيد البهجة، يتجمع أطفال الحي ونفرقع البمب، ونهرع إلى الملاهي مشفقين من تقدم النهار وانصرام اليوم البهيج.
مفردات لغتنا تقدمت كثيرا في هذه الأيام، لكن أبرزها الضرب، كنا نضرب بعضنا بعضا بقسوة وبدون رحمة ثم ما نلبث أن نتصافى، كانت عواطفنا سطحية ومتقلبة ولا تدوم، لغتنا الجديدة كانت تشمل العدو وراء السيارات، ورشق الأشجار بالحجارة، وحفر أسمائنا على الأشجار وحوائط المنزل.
وتمر السنون لنكتشف تغيرات مدهشة في نفوسنا وأجسادنا، فقد صار للبنات سحر خاص وجاذبية غير مفهومة، تسللت إلى لغتنا مفردات مثل الحب وأسماء بنات صار لهن مذاق السحر.. تراجعت ألفاظ من قبيل الضرب فلم يعد مما يليق بشباب متأنق أن يتضاربوا كما الرعاع.. ولا عاد الواحد يعدو وراء عربات الرش، ولا يركل الكرة في الطرقات التي أخليناها لجيل جديد من المشاة الذين راحوا يحتلون المواقع الأمامية في بطء ونجاح... ثم تسللت مفردات مثل الكليات، والتقديرات، والمعامل، ثم دارت الأيام تماما وصارت لغتنا الجديدة أشد قبحا مثل الإيجار، والخلو، والتمليك، والبطالة، والعمل، على أن أهمها كانت الواسطة.
عالم كبار.. كبار
على أن كلمات أخرى مثل السمسار، والغسالة، والثلاجة، صارت لها اليد الطولى، وكلمات تفتقر للرشاقة مثل العفش.. العروس صار هو الاسم الجديد للفتيات، والعريس هو نحن، والمأذون، وأشياء تقطع أننا ولجنا عالم الكبار وتوغلنا فيه بلا عودة.
المرداوي
تراجعت حصيلة لغتنا كثيرا بعد الزواج؛ فقد أصابنا الخرس الزوجي المحتوم، وتعلمنا كيف نحسن الإصغاء لزوجاتنا؛ ذلك الخرس الذي لم يكن ليشفى سوى عند التقاء الشلة التي تفرقت كثيرا.. وصارت سلوانا -نحن الأزواج المقهورين- هو الانتقام بالنكات من الزوجات.. رويدا صار طبيب الأطفال هو الكلمة التي تتردد كثيرا مع أدوية الكحة والحفاظات، ثم عادت كلمات المدرسة تتردد مرة أخرى ولكن من منظور آخر؛ فقد صرت أنت المطالب الآن بدفع النفقات، وصار موعد القسط المدرسي كابوسك الدائم.. كلمات عادت إلى عالمك -غير مرحب بها- مثل الكراس، والأقلام، وكلمات غريبة عن عالمك القديم مثل الدروس الخصوصية.
لقد كبرت وصرت تعرف كلمات أخرى مثل قصور الشرايين التاجية، وتليف الكبد، والدهون الثلاثية، وكلمات باتت تشكل هما مقيما مثل فاتورة الهاتف التي لم تعد تتحدث فيه، ومن يعبأ بالحديث إليك؟! صار أبناؤك يثرثرون لساعات طويلة ما داموا لا ينفقون شيئا!
لقد انتشر الشعر الأبيض في رأسك كالهشيم، وصرت تلهث عند المشي، لكنك لا تستطيع أن تموت بسهولة وأمامك مسئوليات مخيفة من قبيل جهاز البنات، وكأنك تتزوج مرتين.. فيلم عربي تشاهده مرة بعد مرة!
كلمات سعيدة تتردد في عالمك كالأحفاد، وأخرى مشئومة كالمعاش، ثم تعود الشلة للالتقاء في المقاهي بعد أن اتسع الفراغ ليشمل الحياة كلها، ففي القهوة نثرثر كما يروق لنا، ونتداول جميع الكلمات التي تعلمناها في حياتنا كلها، ما عدا كلمة محرمة هي كلمة الموت الذي صار أقرب من اللازم.. أخطر من اللازم.
http://www.najah.edu/?page=3134&news_id=5792
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق